الوصول الى الحقيقة

في #نقد_الموروث – متى ظهرت حضارة المسلمين..وكيف؟

 

بدأت وانتهت في عصر واحد فقط وهو..”العصر العباسي الثاني”..الذي بدأ من القرن التاسع إلى القرن الثالث عشر الميلادي..أي 500 سنة هي زمن التنوير الإسلامي بلا منازع..

سامح عسكر

بدأت حقبة الظلام بعصر المماليك ثم العثمانيين..وفيها تم القضاء على كل مظاهر التنوع السياسي والديني الذي ساد العصر العباسي الثاني، أي كان الباعث للتنوير عند المسلمين هو ما يعرف (بتوازن القوى) كاستقلال دول وشعوب عن سلطة الخليفة، وبدل ما كانت الثقافة في يد شخص أو جماعة أو مذهب..توزعت القوى وامتلك الجميع مفاتيح المعرفة..

أصبح للمسلمين علماء في معظم التخصصات، في الكيمياء جابر بن حيان والرازي والهمداني والمجريطي..وفي الفلك زكريا القزويني والبتاني والزركلي (إبراهيم بن يحيى الزركلي)..وفي الجغرافيا الإدريسي والمسعودي والبيروني والإصطخري، وفي الطب ابن سينا وابن النفيس والرازي، وفي الصيدلة ابن وافد والمارديني وفي الرياضيات الكندي والخوارزمي وعمر الخيام، وفي الهندسة ابن الصفار والإنطاكي والجزري، وفي الفلسفة ابن رشد والفارابي والشيرازي وابن باجة وابن سينا والغزالي وإخوان الصفا، وفي الفيزياء ابن الهيثم وابن هبل وابن سهل..وفي الشعر والأدب ابن حزم الأندلسي وأبو العلاء المعري..

كل هؤلاء كانوا في العصر العباسي الثاني ..حتى أثروا في قرابة قرن تقريبا في عصر المماليك ،طبقا لطبيعة الزمن، أن الفكرة لا تختفي مرة واحدة بل تبهت لعوامل معينة ثم تختفي كأن لم تكن..وهذا يعني أن أعمالهم ونهضتهم نشأت بظهور تلك العوامل (كالتنوع السياسي والديني) ثم اختفت أيضا لفناء نفس التنوع..

تميز العصر العباسي الثاني بضعف سلطة الخليفة وشيوع أفكار وسياسات معارضة للمذهب السني، كالشيعة الذين شكلوا دول بأكملها كالبويهية والفاطمية والحمدانية والقرمطية..ودول سنية معارضة للخليفة كالسلجوقية والغزنوية والخوارزمية والطولونية والإخشيدية والأموية في الأندلس، وقد أدى هذا التنوع لغربلة أفكار وسياسات العصرين الأموي والعباسي الأول، حتى ظهرت النهضة وبدأ عصر التنوير الإسلامي فتحررت العقول وانشقت الأرض عن إبداع لم يحدث منذ زمان الإغريق..وبعد مرور الزمان وانقضاء هذه الدول المذكورة عادت كل الأفكار التي غربلها المتنورون ،وهي أفكار أموية صرفة باتت تحكم قطاعات عريضة من الشعب، فانحط الفكر وشاع الإقصاء والتمذهب..

انتهى هذا العصر في القرن 13 الميلادي..هنا علا شأن ابن تيمية وابن القيم وسائر فقهاء المسلمين المتشددين، وتبدل الحال وشاعت الرجعية بالميل والحنين لعصور السلف الأموي والعباسي الأول، وبدلاً من أن يبحث المسلمون عن المعرفة وأصل الأفكار بحثوا عن ماذا قال فلان وعلّان، فانتشر التقليد وتم إحياء قبيلة حدثنا بعد أن ماتت في كل ربوع العالم الإسلامي..في حين ما زالت نشطة في قصر الخليفة فقط تأخذ حمايتها من السلطة وتتذرع بالأمن القومي لقمع أي نوع من المعارضات..

أي أن المحدثين المسلمين في القرن التاسع كالبخاري ومسلم وأصحاب الكتب الستة لم يتأثروا بهذه النهضة، لأنهم كانوا معزولين داخل قصر الخليفة العباسي، يبحثون عن مصالحه، ولا يعرفون ما يجري حولهم ، كانوا في قوقعة تعيش على كوكب حدثنا وأخبرنا، بينما عصر العقل الإسلامي بدأ، وانتشر التمرد على الخليفة العباسي وعلى المذهب السني بالخصوص كفكرة ممثلة للدولة.

كان البخاري في عز ما هو مشغول بحدثنا فلان وحكايات السلف مع العفاريت كان ابن إسحاق الكندي يشرح علوم ..”جالينوس”.. ويبحث للتفريق بين الكواكب والنجوم، وطريقة إدخال الأرقام الهندية للمسلمين، كان الخوارزمي يدرس المعادلات التربيعية ونقل علوم بطليموس مع تراجم الإغريق، كان البخاري في عز ما هو مشغول بتكفير المعتزلة والأحناف كان الخوارزمي مشغول بصناعة الإسطرلاب والكتابة عليه..

حدث الفارق بين شيوخ رجعيين وانغلاق تام للفكر وبين فلاسفة مفكرين وانفتاح تام لهم، شرع المفكرين في ترجمة علوم الأمم والشعوب الأخرى كاليونان والفرس والهنود، وكانت النتيجة شرح علوم سقراط وأرسطو وأفلاطون، وتم إحياء الأفلاطونية المحدثة بعد قتلها في زمن هيباتيا، وشاع بين المسلمين أفكار العصر الهلنيستي التي أنتجت التصوّف الإسلامي وفلسفته الخالدة إلى اليوم.

وكنتيجة للانغلاق العباسي شاع الشك بين مفكري المسلمين، وبدأوا في البحث عن الحقائق والسؤال عن مصادر المعرفة والحق والخير والسعادة، وهي نفس الأسئلة التي شغلت مفكري العصر الهلنيستي في اليونان

شئ مهم يجب الإشارة له

وهو أن التنوير قديما لم يكن ثقافة عامة شعبية..هذا لم يتحقق في أي جيل حتى في اليونان وأوروبا، التنوير كفكرة تصنعها التحديات وشيوع مظاهر الجهل والظلم والتخلف، وكلمة شيوع يعني أن التنوير هو (حركة معارِضة ) بالأساس تفرضها الأحداث ورغبة القائمين عليها في الإصلاح

أما الاعتقاد أن عصور التنوير تعني أن (الكل) كان متنور هذا غير صحيح، وهو اعتقاد (طوباوي) ناتج عن فهم خاطئ لعملية التنوير، الفيلسوف الإنجليزي برتراندراسل يحكي أنه وفي طفولته رأى أن مجرد ظهور سيقان السيدان الإنجليز يعني فتنة كبيرة، وطفولته في أواخر القرن 19 يعني بعد قرن على الأقل من انتهاء عصر الأنوار..كذلك موقف الأوربيين لم يتطور لما عليه الآن من المرأة سوى في القرن العشرين، قبل ذلك النساء كان وضعهم في أوروبا يشبه وضعهن الآن في العالم العربي..رغم أن فلاسفة أوروبا حرروا المرأة قبلها بقرنين على الأقل..

تصويت النساء بدأ في نيوزيلاندا عام 1893 م ثم انتقل لأوروبا في النصف الأول للقرن العشرين، رغم أن هناك متشددين حتى الآن معارضين لحقوق المرأة، هذا لابد منه، وفكرة وجود مجتمع متنور هذا غير ممكن على الإطلاق، ومروجيه من بعض مدعي التنوير جهلة وغير مدركين لطبيعة ما يفعلون، هذا يعطي الأمل والملمح العام للفكرة النهضوية وهي أنها قائمة على ثلاثية مقدسة وهي (الشك والأمل واليقين) فبالشك ينجح الإنسان في كشف عيوبه، وبالأمل يكتسب القدرة على الإصلاح، وباليقين يسقط أفكاره لواقع معاش..

شئ آخر وهو أن حضارة المسلمين هذه كانت لها قواعد استندت إليها كتاريخ وأفكار المعتزلة مثلا ، ففلاسفة المسلمين سألوا نفس الأسئلة التي سألها الجاحظ وابن سيّار والنظّام والعلاّف والإسكافي وابن الراوندي والأشعري رغم انقلاب البعض منهم على الاعتزال ، كذلك تأثرت بانفتاح بعض الخلفاء كعمر بن عبدالعزيز وهارون الرشيد، وهذا يعني أن الحضارة (تنتقي) ما يؤيد رغبتها في التمدن والارتقاء، وحضارة أوروبا الآن فعلت نفس الشئ بانتقاء أفكار وليم الأوكامي وروجر باكون..وغيرهم..

الخلاصة: أن حضارة المسلمين وُجِدت بالفعل وهي نتاج حركة فكرية شاسعة امتدت من بلاد فارس حتى الدولة الأموية في الأندلس، وتأثرت بأفكار وتراجم الشعوب الأخرى، وأن العامل (الأوحد) لها والمساعد على استمرارها هو (التنوع الديني والسياسي) الذي رافق حقبة العصر العباسي الثاني، ولا أنكر أن دول متخلفة جاءت بعد ذلك –كالمملوكية والعثمانية- استفادت من تلك الحضارة بنسب إنجازاتها لنفسها، وهو تدليس وسرقة معهودة في التاريخ كسرقة الأمويين لحضارة الرومان في الشام، حتى ظن البعض أن المعمار الروماني ومسارح تُدمر هي من بقايا المسلمين.

كذلك فالفقهاء ورجال الدين السنة كفّروا كل -أو معظم- عناصر ومؤسسي تلك الحضارة، والسبب يعود لعصر الإحياء الثاني لعلم الحديث الذي بدأ مع ابن تيمية، وفيه جرى استعادة روح وأفكار كلا العصرين الأموي والعباسي الأول، وما بهما من تخلف وانحطاط فكري وشيوع للمذهبية والكراهية على الصغائر، وانغلاق (تام) فأبدع ابن تيمية في تكفير وتجهيل وتحقير كل مؤسسي حضارة المسلمين، والسبب يعلمه ابن تيمية جيدا أن هؤلاء مفكرين أحرار ، وعقول تبحث عن الجديد ولديها روح التجربة والمغامرة..ولمن يعلم طبيعة المتشدد فهي طبيعة تنزع لمنطق..”سد الذرائع”..وهو منطق قديم- تأثر به الفقه الإسلامي- يمنع الحركة خشية كذا وكذا فيظل الإنسان كامن لا يتحرك..

فإذا ظل الإنسان بدون حركة يتخلف عن الركب، ويعجز عن رؤية من وصل قبله ويظل مشغول دائما (بالخوف) حتى يتقدم غيره ويظل هو محلك سر، هكذا فطن الأوائل للمشكلة وعالجوها بالبحث والمغامرة، ساعدتهم حكومات وقوى سياسية نشرت الحرية والرد على الأفكار من باب التدافع، وفي تقديري أن المسلمين الآن طالما يحكمهم شخص واحد ومذهب واحد سينحطون أكثر وأكثر حتى يكونوا عبرة، أما لو كثرت القوى وتوزعت وتعددت الأفكار والدول المنافسة..هنا فقط نعلن أن عصر التنوير العربي والإسلامي سيطل من جديد..

#نقد_الموروث
#خمسة_تاريخ
#عشق_الفلسفة
#نافذة_على_العالم

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.

Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com