الوصول الى الحقيقة

إبكاء صنعاء ليس امراً سهلاً ــ إذا بكت غيرت الأرض مواضعها

كنّا- منذ الأزل- نؤثّث أرضًا تستوعب أحزاننا، على أنّ أحزاننا- فيما يبدو- قد ضاق بها الجزء الجنوبي الغربي من شبه الجزيرة العربيّة.

مصطفى عامر

واليمنيّون في العادة لا يجيدون البكاء، لكنّهم البارحة- تحديدًا- مارسوا البكاء كما لم يفعلوا قبلًا، وكان بإمكانك- فيما لو أرهفت سمعك وأرهقتَ أذنيك- أن تسبُر دمع الأرض ونشيج الجبال، لعنات الآباء القُدامى والتّبابعة العظام.

وكنّا نُغالب الصبر، دفعًا للملامة، وحتى لا تقول لنا العدالة في يومٍ ما: أخطأتم.
لكنّها، قبل ساعات، صعدت إلى أعلى الجبل، شقّت ثوبها وقصّت ضفائرها وصرخت بالنّاس:

لقد أخطأتم بالصّبر حتّى اليوم.

بالمناسبة:
وحدهم أصحاب الحضارات من يكترثون لما تقوله العدالة.
أمّا الوضعاء، زلّات التّاريخ، فلا يكترثون.

واليمنيّون قد كتموا أحزانهم عامًا كاملًا وشهورًا عديدة، كتموها بصدق، حتّى أنّه يمكنك- فيما لو تصفّحتهم- رؤية مكان كلّ قطرة دمٍ سقطت منذ البداية، مسجّلة بالتّاريخ واليوم والسّاعة والمناسبة..

لكنّهم كتموها حتّى البارحة، ثم انفجروا في وجه الأرض دفعةً واحدةً.
إنّهم هكذا منذ بدء العُمران، صدّقني، يكتمون أحزانهم إلى ما شاء الله، ثمّ يخرجونها دفعةً واحدة.
وفي تلك اللحظات، بالذّات، تتّسع الجغرافيا ويعيد التّاريخ تأثيث فصوله.
وهل كانت ممالك اليمن العظيمة إلّا نتاج أحزانٍ عظيمةٍ استعصت على الكتمان، جمّعها اليمنيُّ- الحكيم بطبعه- ليومٍ عظيمٍ على العدوّ سقر؟!

برافو، أيّها الأعراب، لقد جعلتم صنعاء تبكي.
فسبحان من منحكم النّفط والطّائرات والخسّة، معًا!

وسوف نعترف بشجاعتكم، يا أوضع من مرّوا، ولكن ليس الآنَ، فليكن غدًا، أو بعد غد، أو قبل ذهابكم إلى القيامة بيوم.

فقط، في اليوم الذي تستطيعون فيه الاعتراف ببطولاتكم!
ضدّ أناسٍ ذهبوا لتوديع رجلٍ ذهب لتوّه إلى الآخرة.

في ذلك اليوم، فقط، سوف نعترف بشجاعتكم.
لكن، وبكلّ ما للموت علينا من حق، لن تناموا بسلام.
وسيّان- آنئذٍ- اعترفتم بما اقترفتموه أم لا.

نعم، لقد بكى كلّ شيءٍ هنا البارحة.
كلّ شيء، باستثناء تفاهاتكم المبثوثة على هيئة بشر.
فافرحوا، وتغابوا، ثم قوموا بإنكار أنّها فعلتكم، وارقصوا على طريقة القردة العليا، وقوموا فيما بعد بإرسال أتباعكم في الآفاق، من أصغر “حفاظة” إلى أعلى “حمّام عمومي”، للتّنديد بالجريمة النّكراء على طريقة:
لعن الله من كان السّبب!

شرّقوا أو غرّبوا، “روحوا يمين لفُّوا شمال”.
لكنّكم، وأيمُ الله، ستُحاسبون هنا،
في هذه الحياة الدنيا.

ذلك أنّكم، أيّها الشّجعان، قمتم بالإخلال بجلالة الموت في أرضٍ معجونةٍ بالعُرف، وتحفظ قوانينه عن ظهر قلب، وتقتلع أكباد كلّ من يحاولون انتهاكها.
كونوا شجعانًا إلى نهاية الخط- إذن- وقولوها ببساطة:
نعم، لقد فعلناها.

هل سيغيّر اعترافكم في الأمر شيء؟
بالطّبع لا، فنحن في عصرٍ يمكننا معه، وبكلّ بساطة، تحديد ماهيّة الخنازير البرّيّة التي كانت سببًا في قدومكم إلى هذا العالم.

لكن اليمنيُّ- عبر التّاريخ- يسرّه أن يمنح معاركه شرفًا، ولكي تصبح ندّا لليمنيّ الشّجاع فينبغي عليك اجتياز مجموعة شروط، أيّها التّافه، أقلّها أن تكون قادرًا على تحمّل تبعات ما تقوم به.

وهذه الأرض ستسحقكم على أيّة حال، صدّقوني، لكنّنا على الأقل، وحينما يتعلّق الأمر بكتابة التّاريخ، نريد إخبار أحفادنا بأنّ أرضنا سحقت عدوًا إضافيًّا كان يستحق- في الحد الأدنى- إهدار الحبر في الكتابة عن معاركها معه.

ذلك أنّ إبكاء صنعاء ليس أمرًا سهلًا، فصنعاء- إذا بكت- غيّرت الأرض مواضعها، تخلّى سقف العالم عن وظيفته الرّسميّة، وحملت الجبال بنادقها على نحوٍ لم تألفه، فكلّ شيءٍ في اليمن يحمل السّلاح، تمهيدًا لإستخدامه إذا اقتضى الأمر:

البشر والشّجر والسّهل والجبل، والحصى- حتّى الحصى إذا “حنّ داعي الموت”- ترتّب ذاتها وفق نسقٍ عسكريٍّ مهيب، يسيرون فيما بعد صفًّا واحدًا، يقتلعون عينيك، وعينيّ أبيك، ويقتلعون- أيضًا- عجب الذّنب الذي تعود ملكيته- وفق السّجلّات الرّسميّة- إلى جدّك السّابع عشر.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.

Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com